كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَشَاعَ هَذَا الْقَوْلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَمَشَايِخِ الْمَعْرِفَةِ وَالْحَقِيقَةِ فَصَارُوا يُوَافِقُونَ جَهْمًا فِي مَسَائِلِ الْأَفْعَالِ وَالْقَدَرِ وَإِنْ كَانُوا مُكَفِّرِينَ لَهُ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ كَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الهروي صَاحِبِ كتاب [ذَمُّ الْكَلَامِ] فَإِنَّهُ مِنْ الْمُبَالِغِينَ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة لِنَفْيِهِمْ الصِّفَاتِ. وَلَهُ كتاب [تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة] وَيُبَالِغُ فِي ذَمِّ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَقْرَبِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَرُبَّمَا كَانَ يَلْعَنُهُمْ. وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ النَّاسِ- بِحَضْرَةِ نِظَامِ الْمَلِكِ- أَتَلْعَنُ الْأَشْعَرِيَّةَ؟ فَقَالَ: أَلْعَنُ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ فِي السَّمَوَاتِ إلَهٌ وَلَا فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ وَلَا فِي الْقَبْرِ نَبِيٌّ. وَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ مُغْضَبًا. وَمَعَ هَذَا فَهُوَ فِي مَسْأَلَةِ إرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ: أَبْلَغُ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ. لَا يُثْبِتُ سَبَبًا وَلَا حِكْمَةً بَلْ يَقُولُ: إنَّ مُشَاهِدَةَ الْعَارِفِ الْحُكْمَ لَا تَبْقَى لَهُ اسْتِحْسَانُ حَسَنَةٍ وَلَا اسْتِقْبَاحُ سَيِّئَةٍ. وَالْحُكْمُ عِنْدَهُ: هِيَ الْمَشِيئَةُ. لِأَنَّ الْعَارِفَ الْمُحَقِّقَ- عِنْدَهُ- هُوَ مَنْ يَصِلُ إلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ. فَيَفْنَى عَنْ جَمِيعِ مُرَادَاتِهِ بِمُرَادِ الْحَقِّ. وَجَمِيعُ الْكَائِنَاتِ مُرَادَةٌ لَهُ. وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ. والْحَسَنَةُ والسَّيِّئَةُ يَفْتَرِقَانِ فِي حَظِّ الْعَبْدِ لِكَوْنِهِ يُنَعَّمُ بِهَذِهِ وَيُعَذَّبُ بِهَذِهِ. وَالِالْتِفَاتُ إلَى هَذَا هُوَ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ. وَمَقَامِ الْفَنَاءِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُشَاهَدَةُ مُرَادِ الْحَقِّ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ الْجُنَيْد كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَبَيَّنَ لَهُمْ الْجُنَيْد الْفَرْقَ الثَّانِيَ. وَهُوَ أَنَّهُمْ- مَعَ مُشَاهَدَةِ الْمَشِيئَةِ الْعَامَّةِ- لابد لَهُمْ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَمَا يَنْهَى عَنْهُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ. وَبَيَّنَ لَهُمْ الْجُنَيْد كَمَا قَالَ فِي التَّوْحِيدِ: هُوَ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. فَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْجُنَيْد مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ كَانَ قَدْ اهْتَدَى وَنَجَا وَسَعِدَ. وَمَنْ لَمْ يَسْلُكْ فِي الْقَدَرِ مَسْلَكَهُ بَلْ سَوَّى بَيْنِ الْجَمِيعِ: لَزِمَهُ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْفُسَّاقِ. فَلَا يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ هَؤُلَاءِ وَهَذِهِ الْأَعْمَالَ. وَلَا يُبْغِضُ هَؤُلَاءِ وَهَذِهِ الْأَعْمَالَ. بَلْ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ: هُوَ يُحِبُّهَا كَمَا يُرِيدُهَا كَمَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ. وَإِنَّمَا الْفَرْقُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ يُنَعَّمُونَ. وَهَؤُلَاءِ يُعَذَّبُونَ. وَالْأَشْعَرِيُّ لَمَّا أَثْبَتَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا- بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ- كَانَ أَعْقَلَ مِنْهُمْ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ: أَنَّ الْعَارِفَ الْوَاصِلَ إلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا.
وَهُمْ غَلِطُوا فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَحَقِّ الرَّبِّ. أَمَّا فِي حَقِّ الْعَبْدِ: فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ تَسْتَوِيَ عِنْدَهُ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ. وَهَذَا مُحَالٌ قَطْعًا. وَهُمْ قَدْ تَمُرُّ عَلَيْهِمْ أَحْوَالٌ يَفْنَوْنَ فِيهَا عَنْ أَكْثَرِ الْأَشْيَاءِ. أَمَّا الْفَنَاءُ عَنْ جَمِيعِهَا: فَمُمْتَنِعٌ. فَإِنَّهُ لابد أَنْ يُفَرِّقَ كُلُّ حَيٍّ بَيْنَ مَا يُؤْلِمُهُ وَبَيْنَ مَا يُلِذُّهُ. فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْخُبْزِ وَالتُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالشَّرَابِ. فَهَؤُلَاءِ: عَزَلُوا الْفَرْقَ الشَّرْعِيَّ الْإِيمَانِيَّ الرَّحْمَانِيَّ الَّذِي بِهِ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَعَ الْجَمْعِ الْقَدَرِيِّ. وَعَلَى هَذَا: فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الْعَبْدِ بَيْنَ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ بَلْ لابد لِلْعَبْدِ مِنْ أَنْ يُفَرِّقَ. فَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْ بِالْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ- فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَمَكْرُوهِهِ وَبَيْنَ مَا يَرْضَاهُ وَمَا يَسْخَطُهُ- وَإِلَّا فَرَّقَ بِالْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ بِهَوَاهُ وَشَيْطَانِهِ. فَيُحِبُّ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ شَيْطَانُهُ. وَمِنْ هُنَا: وَقَعَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الْمَعَاصِي. وَآخَرُونَ فِي الْفُسُوقِ. وَآخَرُونَ فِي الْكُفْرِ. حَتَّى جَوَّزُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَقِلُ إلَى وَحْدَةِ الْوُجُودِ. وَهُمْ الَّذِينَ خَالَفُوا الْجُنَيْد وَأَئِمَّةَ الدِّينِ فِي التَّوْحِيدِ. فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ. وَهَؤُلَاءِ صَرَّحُوا بِعِبَادَةِ كُلِّ مَوْجُودٍ. كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ الْحَاتِمِيِّ وَابْنِ سَبْعِينَ والقونوي وَالتِّلْمِسَانِيّ والبلياني وَابْنِ الْفَارِضِ وَأَمْثَالِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ عَلَى مَنْ نَفَى الْحُكْمَ وَالْعَدْلَ وَالْأَسْبَابَ فِي الْقَدَرِ بَيْنَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ وَافَقُوا جَهْمًا فِي هَذَا الْأَصْلِ. وَهُوَ بِدْعَتُهُ الثَّانِيَةُ الَّتِي اُشْتُهِرَتْ عَنْهُ بِخِلَافِ الْإِرْجَاءِ. فَإِنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى طَوَائِفَ غَيْرِهِ. فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّبَّ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ حِكْمَةٍ وَلَا رَحْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ. وَيَقُولُونَ: إنَّ مَشِيئَتَهُ هِيَ مَحَبَّتُهُ. وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ اتَّبَعَهُمْ: غَيْرَ مُعَظِّمٍ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بَلْ هُوَ مُنْحَلٌّ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ كُلِّهِ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ أَوْ مُتَكَلِّفٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ أَوْ يَعْلَمُهُ. فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا: أَنَّ الْجَمِيعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّبِّ سَوَاءٌ وَأَنَّ كُلَّ مَا شَاءَهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ. وَأَنَّهُ يُحْدِثُ مَا يُحْدِثُهُ بِدُونِ أَسْبَابٍ يَخْلُقُهُ بِهَا وَلَا حِكْمَةٍ يَسُوقُهُ إلَيْهَا بَلْ غَايَتُهُ: أَنَّهُ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إلَى الْمَوَاقِيتِ.
لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ فَرْقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ. بَلْ وَافَقُوا جَهْمًا وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ- كَالْأَشْعَرِيِّ- فِي أَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: لَا حَسَنٌ وَلَا سَيِّئٌ. وَإِنَّمَا الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ: مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ وَمَحْظُورًا. وَذَلِكَ فَرْقٌ يَعُود إلَى حَظِّ الْعَبْدِ. وَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ الْفَنَاءَ عَنْ الْحُظُوظِ. فَتَارَةً: يَقُولُونَ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: إنَّهُ مِنْ مَقَامِ التَّلْبِيسِ أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا. كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الهروي صَاحِبِ مَنَازِل السَّائِرِينَ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: يَفْعَلُ هَذَا لِأَهْلِ الْمَارَسْتَان أَيْ الْعَامَّةِ. كَمَا يَقُولُهُ الشَّيْخُ الْمَغْرِبِيُّ إلَى أَنْوَاعٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا. وَمَنْ يَسْلُكُ مَسْلَكَهُمْ: غَايَتُهُ- إذَا عَظُمَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ- أَنْ يَقُولَ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشاذلي: يَكُونُ الْجَمْعُ فِي قَلْبِك مَشْهُودًا. وَالْفَرْقُ عَلَى لِسَانِك مَوْجُودًا. وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ: أَقْوَالٌ وَأَدْعِيَةٌ وَأَحْزَابٌ تَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. مِثْلُ أَنْ يَدْعُوَ: أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ إذَا عَصَاهُ أَعْظَمَ مِمَّا يُعْطِيهِ إذَا أَطَاعَهُ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ: أَنْ يَجْعَلَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بَلْ أَفْضَلُ مِنْهُمْ. وَيَدْعُونَ بِأَدْعِيَةِ فِيهَا اعْتِدَاءٌ كَمَا يُوجَدُ فِي حزب الشاذلي. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَآخَرُونَ مِنْ عَوَامِّ هَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ: أَنْ يُكَرِّمَ اللَّهُ بِكَرَامَاتِ أَكَابِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَكُونُ فَاجِرًا بَلْ كَافِرًا. وَيَقُولُونَ: هَذِهِ مَوْهِبَةٌ وَعَطِيَّةٌ يُعْطِيهَا اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ. مَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ لَا بِصَلَاةِ وَلَا بِصِيَامِ. وَيَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ. وَتَكُونُ كَرَامَاتُهُمْ: مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ مِثْلُهَا لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ. قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ». وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ جَاءَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ الْقُرْآنُ: عَدَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ- مِمَّنْ أَضَلَّهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ- إلَى أَنْ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ. فَلَا يُعَظِّمُ أَمْرَ الْقُرْآنِ وَلَا نَهْيَهُ. وَلَا يُوَالِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالَاتِهِ. وَلَا يُعَادِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُعَادَاتِهِ. بَلْ يُعَظِّمُ مَنْ رَآهُ يَأْتِي بِبَعْضِ خَوَارِقِهِمْ الَّتِي يَأْتِي بِمِثْلِهَا السَّحَرَةُ وَالْكُهَّانُ. بِإِعَانَةِ الشَّيَاطِينِ. وَهِيَ تَحْصُلُ بِمَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ: أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ. وَلَكِنْ يُعَظِّمُ ذَلِكَ لِهَوَاهُ وَيُفَضِّلُهُ عَلَى طَرِيقِ الْقُرْآنِ لِيَصِلَ بِهِ إلَى تَقْدِيسِ الْعَامَّةِ. وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ. كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}. وَهَؤُلَاءِ ضَاهُوا الْكُفَّارَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ. وَمِنْهُمْ: مَنْ لَا يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيَاطِينِ. وَقَدْ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَأَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَوُّفِ. حَتَّى جَوَّزُوا عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ. لِمَا رَأَوْهُ فِيهَا مِنْ الْأَحْوَالِ الْعَجِيبَةِ. الَّتِي تُعِينُهُمْ عَلَيْهَا الشَّيَاطِينُ. لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا مِنْ بَعْضِ أَغْرَاضِهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ فَلَا يُبَالُونَ بِشِرْكِهِمْ بِاَللَّهِ وَلَا كُفْرِهِمْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ إذَا نَالُوا ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالُوا بِتَعْلِيمِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ. وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُمْ. لِرِيَاسَةِ يَنَالُونَهَا أَوْ مَالٍ يَنَالُونَهُ. وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ: عَمِلُوهُ وَدَعَوْا إلَيْهِ. بَلْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ رَيْبٌ وَشَكٌّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْ اعْتِقَادٌ أَنَّ الرَّسُولَ خَاطَبَ الْجُمْهُورَ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ. لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجُمْهُورِ. كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ. وَقَدْ دَخَلَ فِي رَأْيِ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَهَذَا مِمَّا ضَاهُوا بِهِ فَارِسَ وَالرُّومَ وَغَيْرَهُمْ. فَإِنَّ فَارِسَ كَانَتْ تُعَظِّمُ الْأَنْوَارَ وَتَسْجُدُ لِلشَّمْسِ وَلِلنَّارِ. وَالرُّومَ كَانُوا- قَبْلَ النَّصْرَانِيَّةِ- مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَشْبَهُوا فَارِسَ وَالرُّومَ: شَرٌّ مِنْ الَّذِينَ أَشْبَهُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. فَإِنَّ أُولَئِكَ ضَاهَوْا أَهْلَ الْكِتَابِ فِيمَا بُدِّلَ أَوْ نُسِخَ. وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ فَارِسَ وَالرُّومَ وَمَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْهِنْدِ وَالْيُونَانِ. وَمَذْهَبُ الْمَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْمَجُوسِ بِالْأَصْلَيْنِ وَمِنْ قَوْلِ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ بِالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ. وَأَصْلُ قَوْلِ الْمَجُوسِ: يَرْجِعُ إلَى أَنْ تَكُونَ الظُّلْمَةُ الْمُضَاهِيَةُ لِلنُّورِ: هِيَ إبْلِيسُ وَقَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ بِالنَّفْسِ. فَأَصْلُ الشَّرِّ: عِبَادَةُ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَجَعْلُهُمَا شَرِيكَانِ لِلرَّبِّ وَأَنْ يَعْدِلَا بِهِ. وَنَفْسُ الْإِنْسَانِ تَفْعَلُ الشَّرَّ بِأَمْرِ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ «عَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقُولَ- إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى وَإِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ- اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك. إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». وَهَذَا مِنْ تَمَامِ تَحْقِيقِ قَوْله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} مَعَ قَوْله تعالى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَدْ ظَهَرَتْ دَعْوَى النَّفْسِ الْإِلَهِيَّةِ فِي فِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ ادَّعَى أَنَّهُ إلَهٌ مَعَ اللَّهِ أَوْ مِنْ دُونِهِ وَظَهَرَتْ فِيمَنْ ادَّعَى إلَهِيَّةَ بَشَرٍ مَعَ اللَّهِ كَالْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ.
وَأَصْلُ الشِّرْكِ فِي بَنِي آدَمَ: كَانَ مِنْ الشِّرْكِ بِالْبَشَرِ الصَّالِحِينَ الْمُعَظَّمِينَ. فَإِنَّهُمْ لَمَّا مَاتُوا: عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ. فَهَذَا أَوَّلُ شِرْكٍ كَانَ فِي بَنِي آدَمَ. وَكَانَ فِي قَوْمِ نُوحٍ. فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. يَدْعُوهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ. وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الشِّرْكِ. كَمَا قَالَ تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} وَهَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا فِي قَوْمِ نُوحٍ. فَلَمَّا مَاتُوا جَعَلُوا الْأَصْنَامَ عَلَى صُوَرِهِمْ ثُمَّ ذَهَبَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ أَهْلَ الْأَرْضِ ثُمَّ صَارَتْ إلَى الْعَرَبِ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. إنْ لَمْ تَكُنْ أَعْيَانُهَا وَإِلَّا فَهِيَ نَظَائِرُهَا. وَأَمَّا الشِّرْكُ بِالشَّيْطَانِ: فَهَذَا كَثِيرٌ. فَمَتَى لَمْ يُؤْمِنْ الْخَلْقُ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ بِمَعْنَى: أَنَّهُ الْمَعْبُودُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ. وَأَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ وَأَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُعْبَدَ وَأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَا أَحَبَّهُ مِمَّا شَرَعَ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ- فَلابد أَنْ يَقَعُوا فِي الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ. فَاَلَّذِينَ جَعَلُوا الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ كُلَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ سَوَاءٌ. لَا يُحِبُّ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ: فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ مَنْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. وَبَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى. وَجَعَلُوا الْأَمْرَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَةِ. لَيْسَ مَعَهَا حِكْمَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا عَدْلٌ. وَلَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ: طَمِعَتْ النَّفْسُ فِي نَيْلِ مَا تُرِيدُهُ بِدُونِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. ثُمَّ إذَا جَوَّزُوا الْكَرَامَاتِ لِكُلِّ مَنْ زَعَمَ الصَّلَاحَ وَلَمْ يُقَيِّدُوا الصَّلَاحَ بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالتَّقْوَى بَلْ جَعَلُوا عَلَامَةَ الصَّلَاحِ هَذِهِ الْخَوَارِقَ. وَجَوَّزُوا الْخَوَارِقَ مُطْلَقًا. وَحَكَوْا فِي ذَلِكَ مُكَاشَفَاتٍ وَقَالُوا أَقْوَالًا مُنْكَرَةً. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْوَلِيَّ يُعْطَى قَوْلَ كُنْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْوَلِيِّ فِعْلُ مُمْكِنٍ. كَمَا لَا يَمْتَنِعُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِعْلُ مُحَالٍ. وَهَذَا قَالَهُ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ. قَالُوا: إنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يُقَالُ: إنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ لِلْوَلِيِّ حَتَّى وَلَا الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَزَادَ ابْنُ عَرَبِيٍّ: أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَعْزُبُ عَنْ قُدْرَتِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ. وَاَلَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْ قُدْرَتِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ: هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ. فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُمْ: بِأَنَّ الْوَلِيَّ مِثْلُ اللَّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ اللَّهُ.